الألفاظ العامية الفجة.. بين الفن والواقع

تجاهل الواقع والانسحاب إلى ما هو مثالي تماما ليس أمرا صحيا بالضرورة. إنما هو ابتعاد عن الطبيعة البشرية التي تحمل في طياتها تناقدات لا يمكن حصرها؛ نحن محملين بكم هائل من المساوئ والأخطاء.. وأيضا من المزايا والنزعات الروحية السامية.. إن الإنسان عبارة عن كتلة مكتملة تشبه الكون.. والمجتمع الإنساني ليس مجتمعا ملائكيا.. ولن نستطيع تغيير الواقع وبناء مجتمع صحي وقوي بدون احترام هذه القاعدة الجوهرية.

ومن جهة أخري، نستطيع أن نصف الفن بشكل عام (كتابة، سينما، مسرح، رسم، تصوير..إلخ) بأنه مرآة الواقع، وضميره، ولغته المشتركة بين جميع البشر.. وهو جزء من الضمير الجمعي للمجتمع، والوعي العام، وهو يساهم بشكل أساسي في بناء المعرفة، وإثراء الوعي، وتحليل الواقع بغية الخروج بتشخيص كلي وعميق لما نحن عليه الآن، وما يمكن أن نؤول إليه في المستقبل…

تحضرني الآن مقولة لشاعر العامية الكبير ” أحمد فؤاد نجم” ملخصها أن الشاعر يختار كلماته بعناية، فهناك حالات تستلزم الكلمة “الوردة” ، وحالات أخري تستلزم الكلمة “الحذاء”.. وأنا هنا أقصد على وجه التحديد أن استخدام الألفاظ العامية الفجة والغير مقبولة عند شريحة كبيرة من المجتمع، استخدامها في الفن بشكل عام إنما هو تصوير لما هو عليه الواقع فعلا.. وليس من باب محاولة لفت الانتباه…

من خلال دراستي للأدب الفرنسي في كلية الآداب، تعرفت على المدرسة الطبيعية في الأدب، ورائدها ” إيميل زولا”. مبادئ المدرسة الطبيعية تستهدف دراسة الفئات الأقل حظا من التحضر ( الفلاحين والعمال) في المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر.. وهي – كامتداد للمدرسة الواقعية بريادة بلزاك – تتخذ من دراسة الواقع كما هو منهجا لها، وتستند في ذلك على اللغة العامية بكل أنواعها، وحتى الأكثر انحطاطا منها، وتستند أيضا على علم التشريح في رسم الشخصيات وثبر أغوارها.. كل هذا بغية تشخيص الواقع المريض لمجتمع يعاني، ومعرفة أسباب تخلفه ومعاناته، ووضع صورة شفافة ومكتمله أمام من يريد الإصلاح، والأهم: أمام القارئ نفسه، حيث لا مجال للإصلاح بدون المعرفة العامة العميقة..

كل هذا يدعم فكرة التجرد في تناول مشكلات المجتمع المعقدة فيما يخص لغته وطريقة تعبيره.. حيث أن اللغة هي انعكاس لحالة مجتمع من المجتمعات.. وعنصر محدد في تناول طريقة تفكيره.. وركن أساسي من أركان شخصيته. والفن عندما يتناول اللغة العامية والألفاظ المنحطة، فهو بالقطع لا يدعو لاستخدامها، على العكس، هو يحاول عن طريقها وضع صورة عامة ومكتملة عن حالة هذه الجماعة أو تلك.. من أجل رؤية أوضح لطبيعتها، وربما رؤية أوضح للطبيعة البشرية بشكل عام

Scroll to Top