بات من غير المستغرب على نور عياد التأقلم مع بنى جنسه ، بعد سنوات عجاف قضاها فى التسكع بين المقاهى والطرقات . . وهذا بالتحديد ما دفعه الى التحلى بالصبر لمواصلة الحديث الذى شارف على نهايته مع زينب الامير – زوجة اخيه عامر – قائلاً بصوت هامس لا يخل من انفعال
سيبى الحزن لوقته ! احنا لسه فى البداية ، وخلينا ننتظر نتيجة التحليل النهائية –
وهم بمغادرة موقفه عندما استدعى وعيه لا ارادياً كلماته الاخيرة من شريط ذاكرته المؤقتة، فبدت له غير موفقة، وشعر بوخذة مؤلمة تناهت الى اعماق قلبه وهو يعيد صياغة الجملة: ” اتركى التظاهر بالحزن.. “. وخذة مبعثها الحنين والاشفاق على أخيه عامر، توأم روحه، ووليف طفولته وصباه ، طريح الفراش ، الذى باتت أيامه فى الحياة معدودة ، بعد اكتشاف مرض عضال يعمل منذ زمن على تدمير خلايا مخه السليمة . . واستنساخها الى اخرى تالفة تتنامى فى اضطراد حتى تجهز على حياته ، فى استسلام تام منه . . استسلام مبعثه اليأس ، وانقطاع الرجاء فى مواصلة الحياة بعد طول مقاومة واحتمال
لاحظت زينب تردده بين الانصراف والبقاء ، فقالت بشئ من الحدة :
– انت حتى مش عايزنى احزن على أخوك اللى ما ليش فى الدنيا غيره ؟
قالتها ومالت بجفونها الى الأرض فى حركة لا إرادية ، لم يخف على نور سببها المدفون فى ثنايا الزمن على بعد أربعة عشر عاماً ، هى عمر مأساته الدامية . عندما ذبح قلبه فى عمر الثامنة عشر ، على مرأى ومسمع من نجوم الليل المحدقة به فى تحدٍ صارخ ، ومن قمر باهت طالما بثه اشواقه المتأججة ، ومن فضاءٍ بات ساهراً ليشهد مأساة جديدة تضاف إلى مآسى التاريخ التى لم تدون بعد .
وحدهم البشر لم يعرفوا ما آل إليه قلب نور المتوقد دائما بالحب والحياة . كيف يقص على الناس خبر امرأة آثرت حب أخيه على حبه ؟ ونبذت ذلك الحب الهادئ النابع من قلب صغير لم يُثقل بعد بمطبات الحياة ؟ وكيف . . ؟ وكيف . . ؟ وكيف . . ؟
غير أن نور آثر مكابدة الحرمان حتى من البوح طوال سنوات ، متعذيا بحبه لأخيه الأكبر الذى طالما تمنى التضحية من أجل سعادته ، حتى لو تطلب الأمر التخلى عن سعادته هو . . .
فرد كأنما يهامس نفسه وهو يحول وجهته الى الباب :
– انا رايح اسأل ادكتور . .
* * *
” ما اخبيش عليك ، اخوك حالته خطيرة ، وهو ينتظر الموت فى أى لحظة. “
ظل صدى كلمات الطبيب يتردد فى الفراغ الذى حل فجأة فى روح نور عياد ، وشمل كيانه حتى عزله تماماً عن محيطه الخارجى . فلم يعد يسمع أزيز الحياة فى الشارع المزدحم ، ولا قهقهات المارة اللاهية التى طالما تأملها ، ولا منبهات السيارات الغادية والرائحة رغم ازعاجها المتواصل . فسار يتلمس طريقه الى البيت كميت تركه المشيعون فى مقبرة وغادروا إلى حياتهم الخاصة . وما يدرى إلّا وصوت يرن فى أذنيه بدا كأنه صدر من بئر سحيق : ” ما توسع يا أخينا ! انت هتاخد الشارع لحسابك ؟ ” .
لم يلتفت إلى مصدر الصوت ، بل تنحى الى جانب الطريق عندما لمح مجموعة من الأرفف مسندة إلى حائط ، ومرصوص عليها اعداد هائلة من علب الأدوية ، فتذكر المسكن الذى وصفه الطبيب لأخيه حتى يخفف من آلامه. عرج الى الصيدلية وابتاع الدواء المسكن ، ثم خرج وواصل سيره الى البيت عائداً الى عزلته اللانهائية . . .
* * *
قضى نور ليلته التى اعقبت موت أخيه عامر بشهرين فى قلق شامل . فتارة يقف منتصباً كأبى الهول إلى شرفة حجرته المطلة على طريق خالٍ الّا من قطتين يتلاعبان هنا وهناك ، واخرى راقداً فى فراشه ساهماً فى الظلام ، أو متقلباً تتقاذفه أمواج فكره المتلاطمة فى غير هوادة . . وهو يصارع الزمن متسلحاً بالعزيمة فى حمل نفسه عى الصبر حتى بزوغ الشمس من مرقدها ، وانتظار الحركة تدب فى الطرقات مع انتشار الضوء وهياج الناس كلٌ إلى غايته . .
وكان هذا لسبب بسيط : فقد عقد العزم على مصارحة “لبنى الزينى” بحبه فى هذا الصباح . . .